الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مسلسل المنارة: اجهاض الاحلام بليالي الظلمة.. بقلم المخرج حافظ خليفة

نشر في  03 جويلية 2017  (15:48)

بقلم المخرج حافظ خليفة

يعتريني الاحساس احيانا بعدم جدوى الكتابة والتحليل ولما لا محاولة النقد بهذا البلد الاصم، ونظرا لانصهاري بالجانب الابداعي كفاعل فيه. اصمت منتظرا لاصحاب الاقلام الناقدة والعارفة والواعية للتحليل والذود عن أي ظاهرة ابداعية جديدة دون رياء او نفاق او حسابات، ولكن اجدني مضطرا للكتابة وبعد تأمل دام شهر ودون تسرع لكل هذا الجدل حول مسلسل المنارة الذي تم بثه بالنصف الثاني بشهر رمضان الفارط والذي كان من امضاء الصديق والزميل النجم عاطف بن حسين.

المنارة مسلسل مجدد عن طريق المدرسة الطبيعية وبقدرات فريدة في استعمال الكاميرا المحمولة بكامل مشاهد المسلسل وهو اجتماعي بامتياز، وقد تم تقديمه من خلال طاقات اغلبها عرفناها بحضورها القوي بالساحة المسرحية وباعتبارها من خيرة خريجي المعهد العالي للفن المسرحي، وهو المسلسل التونسي الوحيد الذي تم تقديمه في نسخته الصفر قبل انتاجه كبادرة لم يسبق لها مثيل، ولاقناع الهياكل المنتجة وحتى المستشهرين لتبني هذا العمل، وباعتباره التجربة الاخراجية الاولى لعاطف.

وقد حقق هذا المسلسل نسب مشاهدة قياسية بالشبكة التلفزية الوطنية لهذا العام بالرغم ما نعرفه من تخمة انتاجية لشهر رمضان.

شنت مؤخرا البعض من وسائل الاعلام و المنتجين الاخرين والبعض من رجال الفن وخاصة من المشتغلين بالحقل السمعي البصري حملة نقدية ان لم نقل تشويهية حادة، وكالعادة نخبتنا الفنية والصحفية نائمة في عسلها و قابعة على كراسي الفرجة دون حراك او حتى ابداء الراي بكل تجرد وحيادية.

الامر الواضح ان الانتاج السمعي البصري ببلادنا اضحى تجاريا بالاساس خاصة اذا عرفنا انها تقوده لوبيات من قديم الزمان، وهي نفسها التي تعادي وتراس هذه الحملة، سعيا منها الى الانقاص من قيمة العمل جماليا و فنيا وحتى تقنيا باعتبارهم يريدون ايهامنا بريادتهم وبعلمهم وباختصاصهم بالتقنيات الاخراجية السمعية البصرية، وهم عادة من خانة المخرجين السينمائيين الفاشلين او المنعرلين الذين يرون تونس من خلال دائرة الشقق الفاخرة والشاليهات والسيارات الفخمة وبنات الهوى الجميلات والعاهرات والعصابات الى ان تظن نفسك وتشك اننا في شيكاغو ولسنا بتونس، ونعلم مسبقا انها تداعيات الولع بالتقليد وازمة الهوية مع قوة راس المال والعلاقات المشبوهة مع المستشهرين.

عاطف بن حسين ظاهرة فريدة ازعجتهم واقضت مضجهم، هذا الممثل الشاب النجم الذي يتحول (مفاجئا اياهم) الى مخرجا ومنتجا وبالتالي يصبح منافسا قويا سلاحه طاقما من التقنيين الشباب والممثلين الاكاديميين والعارفين بسبل التمثيل ومدرسيه لمشاهد الغد بمدارسنا ومعا ما الثانوية، هي طاقات شهدت لها الساحة المسرحية بالتفوق والتميز، في حين اننا سئمنا من مشاهدة -ولمدة السنوات السبع الاخيرة- ممثلين وممثلات نكرات لا ندري من أي معارض ازياء يأتون بهم ,اعتماد اختيارهم على جمالية المظهر والوسامة ثم يختفون ولا نراهم الا بالموسم الذي يليه، ولا حتى لمشاهدة العروض المسرحية او الفنية الاخرى مثلما قال المخرج والمعلم الكبير توفيق الجبالي عليهم {ممثلي المسلسلات الرمضانية لهم مخزن يخرجونهم منه مرة كل سنة ثم يعيدونهم اليه}.

لقد قدم المنارة الحياة التونسية بمجاري مياه الصرف والحارات الشعبية المحرومة وقرى البحر النائية والملاهي الليلية ومكاتب التجارة الدينية، لقد اخذنا الى حقيقتنا المشوهة وجعلنا ننظر الى بشاعة واقعنا الذي حاولت مسلسلات البرتمانات والفيلات الفاخرة حجبه عنا والتي ننساها بعد مشاهدتها مباشرة. ولقد حقق هذا المسلسل المرابيح لاصحابه بعد مجازفتهم الكبيرة باعتمادهم على المستشهرين الذين حاول بعض المنتجين الاتصال بهم لايقاف دعمهم لهذا الابداع المتفرد الجديد.

مرحبا بكم سادتي في تونس ما بعد الثورة {ميليشيات التشويه و الغطرسة الابداعية، عصابات الانتاج وخوصصة كل شيء، والاحتكار الابداعي التجاري، الخ}، بلد قتل الابداع الشبابي الجديد ذنبه الوحيد انه اصبح منافسا دون رشاوي او نفاق وانه ينقل حياتنا بواقعية محرجة، بلد دراما عارضي الازياء واشباه الاشباه في حين نراهم يبحثون عن المبدعين والمتخرجين من المعهد العالي للفن المسرحي لبرامج سكتشاتهم وسيتكوماتهم التهريجية الكوميدية الهابطة، ولان جميلاتهم وجميليهم من الممثلين لا يستطوعون الغطس في بحور الكوميديا الصعبة، بلد الحلم الابداعي بأن يتحول الممثل الى مخرج صاحب مشروع ومحاولات اقناعه لتحنيطه بميدان التمثيل.

وقد نسينا تحول كبار ممثلي العالم من مخرجين في التلفزيون والسينما مثل {مال قيبسون وكلينت استوود ورومان بولانسكي ولورنس اوليفيي وارسن والز واوليفر ستون وغيرهم ......} ولانهم لا يدركون انه وصل الى مرحلة يريد ان يتقاسم موهبته مع زملاءه الممثلين الحقيقيين والذين انتظروا لسنوات عديدة بسجون الرفض و التجاهل هذه الفرصة كي يصدمو الجميع بطاقاتهم، وقد راينا بنفس المسلسل كيف تحولت ممثلة مجهولة التكوين والنشأة الى عدوة شرسة.

عاطف يا صاحب المنارة بليالي الظلمة وعواصف الرداءة ونوة الجدب التلفزي، لن يغفروا بأن يكون لك الان حقل، لن يسمحوا لك ان تكون مرآتنا وحقيقتنا لهذا الحال المقرف، لن يتركوا لك لحظات النجاح، و بالاخير سيحاولون بكل جهد اطفاء منارتك او هدمها ما لم تستيقظ نخبنا من هذا السبات والصمت القاتل كي تدافع عن المستقبل وعن الواقع لشعب يعاني الويلات والفساد السمعي البصري والذوقي..

اعلم ان كل هذا الجدل دليل نجاح. و كن كما عرفتك: واثقا بنفسك وعنيدا.. وانتظر ان اشاهد عملك الجديد بالسنة المقبلة او جزءك الثاني فاننا فعلا نحتاج وبشدة الى منارات بهذه الليالي المظلمة والمجهضة للاحلام الابداعية الجديدة.